الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجًا، قيّما لينذر بأسًا شديدًا من لدنه، ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرًا حسنا ماكثين فيه أبدًا، وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدًا، مالهم به من علم ولا لآبائهم كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبًا، الحمد لله الذي أرسل رسوله شاهدًا ومبشّرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا، وأشهد ألا إله إلا الله، وأشهد أنّ محمدًا عبده ورسوله بعثه الله بالحقّ إلى الثقلين مبصّرًا ومعلّمًا ومؤدّبًا اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وآتهم من لدنك فضلا كبيرًا
أما بعد:
فقد قال تعالى في كتابه العزيز مخبرًا عن حبيبه ورسوله وصفوة خلقه – صلى الله عليه وسلم – أنّه شكى إلى ربّه عزوجل فقال: وقال الرسول ياربّ إنّ قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورًا (الفرقان: 30 ): وذلك أنّ المشركين كانوا لا يصغون للقرآن ولا يستمعونه كما قال تعالى عنهم: وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون ( فصلت 26 )، فكانوا إذا تلي عليهم القرآن أكثروا من الشغب والصخب وصفّقوا وصفّروا وخاضوا في غيره من الكلام حتى لا يسمعوا الكتاب المبين، ولا يدعوا غيرهم يسمع القرآن، فسلاّه الله عز وجل وعزّاه، وأمره بالصبر والثبات، ووعده ورجّاه، وأخبره أنّ هاؤلاء الخلق لهم سلف صنعوا كصنيعهم فقال: وكذلك جعلنا لكل نبيّ عدوًا من المجرمين أي: مثلما جعلنا لك أعداء من قومك كفروا بربك وهجروا كتابك وصدوا عنك وبالغوا في أذيّتك جعلنا لكل نبيّ ممن نبّأنا أعداء من أهل الذنب والإجرام فما أصابك إلا ما أصابهم فاصبر كما صبروا قال تعالى: فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل ولا تستعجل لهم كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار بلاغ فهل يهلك إلا القوم الفاسقون ( الأحقاف: 35 ) وكفى بربك هاديا: فهو سبحانه بيده الهداية إلى الحق، والتبصرة إلى الرشد ففي الصحيح عن ابن المسيّب عن أبيه قال: لما حضرت أبا طالب الوفاة، جاءه رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فوجد عنده وأبا جهل بن هشام وعبد الله بن أميّة بن المغيرة قال رسول الله– صلى الله عليه وسلم – لأبي طالب: " يا عمّ، قل: لا إله إلا الله، كلمةً أشهد لك بها عند الله " فقال أبو جهل وعبد الله بن أميّة يا أبا طالب: أترغب عن ملّة عبد المطّلب ؟ فلم يزل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يعرضها عليه ويعودان بتلك المقالة حتى قال أبو طالب آخر ما كلمهم هو على ملّة عبد المطّلب وأبى أن يقول لا إله إلا الله فقال النبيّ – صلى الله عليه وسلم –: والله لأستغفرنّ لك ما لم أنهَ عنك فأنزل الله عزّ وجلّ: ما كان للنبيّ والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنّهم اصحاب الجحيم ( التوبة 113 ) وأنزل الله في أبي طالب: إنّك لا تهدي من أحببت ولكنّ الله يهدي من يشاء ( القصص: 56 ) ) البخاري ( 4772 ) ومسلم ( 24 ) ونصيرًا: فهو سبحانه الذي ينصرك على أعدائك ويرد عنك كيد الكائدين ومكر الماكرين فاكتف به وتوكل عليه، وهؤلاء الذين سمّاهم الله تعالى أعداء لنبيه ووصفهم بالإجرام هم أولئك الذين هجروا القرآن وصدوا عنه، وعارضوا القرآن، وخالفوا القرآن، وحاولوا تحريف القرآن، وفي هذا تخويف عظيم، ووعيد شديد لكل من هجر القرآن العظيم بأيّ وجه من وجوه الهُجران. وأيضا في حكاية القرآن لهذه الشكوى وعيد كبير للهاجرين للقرآن بإنزال أشد العقاب بهم إجابة لشكوى نبيه – صلى الله عليه وسلم –.
وللأسف أيها الأحباب أننا نعيش في تيه وفراغ وغفلة وضياع، لأننا مشغولون بالسفاسف، همومنا منصبّة على التوافه، مشغولون بعيوب الناس وتركنا عيوبنا، حديثنا عن نقائص غيرنا مع السكوت عن الطامات والبليات من نواقصنا، ولاشك بأنّ هذا من الخذلان والحرمان الموصل إلى النيران، إننا في زمن غدّار ابتعد فيه الناس عن كتاب الله تبارك وتعالى وهجروه هجرًا غير جميل، والمصيبة الكبرى والداهية العظمى أن يكون الهجر منتشرًا بين أبناء الحركات الإسلامية والدعوات الربانية، فإننا نقولها بكل صدق وصراحة وقلوبنا تتفطّر دمًا وقيحًا بأنّ كثيرًا من الشباب المحسوب على الإستقامة والإلتزام لا يعرف المصحف إلا في رمضان، بل الأدهى والأمرّ حتى في رمضان الكثير منهم منشغل بالقيل والقال وكثرة السؤال وإضاعة المال والعمر والزمان فيما يغضب الرحمن، وهم يحسبون أنــهم يحسنون صنــعًا، ألا تعلم أيها الحبيب أننا بقدر إقبالنا على القرآن يكون إقبال الله تعالى علينا، وبقدر إعراضنا عن القرآن يكون إعراض الله تعالى عنا، وإنما يكون حظ المؤمن بالرفعة في الدنيا ووضع القبول له مع الدرجات العلى عند مليك مقتدر يوم القيامة بقدر حظه من القرآن ففي صحيح مسلم ( 817 ) أن نافع بن عبد الحارث لقي عمر بعُسفان وكان عمر يستعمله على مكة فقال: من استعملت على أهل الوادي ؟ فقال: ابن أبزى، قال: ومن ابن أبزى ؟ قال: مولى من موالينا قال: فاستخلفت عليهم مولى ؟ قال: إنه قارئ لكتاب الله عزّوجلّ، وإنّه عالم بالفرآئض، قال عمر: أما إن نبيكم – صلى الله عليه وسلم – قال: " إنّ الله يرفع بهذا الكتاب أقوامًا ويضع آخرين " وعن عمرو بن العاص – رضي الله عنه – قال قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: يقال لصاحب القرآن اقرأ وارتق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها " رواه أبو داود ( 1464 ) والترمذي ( 2914 )